الأربعاء - 22 مايو 2019 - الساعة 01:05 ص
كل المؤشرات الراهنة تؤكد استحالة استمرار الوحدة اليمنية بين الجنوب والشمال، وأصبح ضرب من الخيال التشدق بالوحدة لا سيما بعد التضحيات الجسام التي قدمها الجنوبيين في سبيل استعادة دولتهم الجنوبية كاملة السيادة على حدود ما قبل نهار 21 مايو / ايار 1990م.
لقد تبخر حلم الوحدة اليمنية - التي كان الجنوبيين يتطلعون إليها بغرض السير نحو تحقيق وحدة عربية قومية - مع اعلان سلطات صنعاء برئاسة علي عبد الله صالح الحرب الهمجية على الجنوب في صيف عام 1994م، لتنتهي تمامًا وكليًا من قاموس الجنوبيين لا سيما وأن نظام صنعاء استهدف – خلال حربه - الجنوب (أرضًا وإنسانًا)، ليصبح سقوطها قاب قوسين أو ادنى خصوصًا مع الحرب الثانية التي شنها الحوثيين وأتباع صالح على الجنوب منتصف مارس / اذار 2015م، وهي الحرب التي قطعت شعرة معاوية التي كان بقاء "الوحدة" مرهونًا بها.
لقد كان الشعب الجنوبي - المقيم على أرضه منذ آلاف السنيين في الجمهورية التي كان يطلق عليها "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" قبل أن يتغير اسمها على يد الرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين) في بداية ديسمبر / كانون الأول 1970م إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، يتطلع إلى الوحدة اليمنية على أساس اتفاقية شراكة مع الشعب الشقيق في "الجمهورية العربية اليمنية"، وهو بذلك لم يبع أرضه وثرواته ومؤسساته أو يرهنها لأحد، بل كان دافعه لها، أي الوحدة، هو الآخاء العربي والإسلامي والقومي، لكن "الوحدة" ضُربت في الصميم بإعلان الحرب على الجنوب في صيف 94م من قبل نظام صالح آنذاك.
ومن عجائب الوحدة التي قامت بين الدولتين في الجنوب والشمال، انها لم تكنْ قائمة على أُسس وقواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية، إلى جانب انها اتفاقية أُبرمت بين دولتين تتمتعان بسيادة وأعضاء في عديد الهيئات والمنظمات الدولية والعربية، وكان الخطأ الفادح الذي وقع به الطرفين عدم اشراك أي من الهيئات الدولية وتحديدًا منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في التوقيع على اتفاقية الوحدة ولو كـ"شهود"، ما يعني أن الوحدة اُعلنت بسبب لهفة الجنوبيين الكبيرة إلى وحدة عربية قومية غير أن نظام صنعاء استغل ذلك الاندفاع فحرف مسارها العربي القومي، وحولها إلى "وحدة نهب وفيد وتجارة وقتل"، الأمر الذي جعل الجنوبيين يندمون الاف المرات على ابرام الوحدة، ليعاودوا نضالهم الذي بدأوه ضد الاستعمار البريطاني، ولكن هذه المرة ضد نظام صنعاء، والذي توّج بإعلان الحراك الجنوبي السلمي في 7 / 7 / 2007م.
ومن المفارقات الغريبة إن اتفاقية "الوحدة اليمنية المشؤمة" لم تُنشر أو تودع لدى الهيئات الدولية، ولا يعلم الشعب الجنوبي ولا الشعب الشمالي عن الاتفاقية شيء إلا ما تسرب بأنها عبارة عن صفحة ونص الصفحة، أضافة إلى انها تحتوي على مقدمة وإحدى عشر مادة فقط، وهذه المساحة لا تكفي حتى لعقد تأجير محل، فما بالكم باتفاقية وحدة بين دولتين تمتلكان سيادة ونظامين وشعبين وعلمين وعملّتين وشعارين؟!.
ومع مرور السنوات تبين بجلاء أن مشروع الوحدة لم يعني في فكر سلطة "الجمهورية العربية اليمنية" برئاسة علي عبد الله صالح غير مشروع التوسع ونهب الثروات وضم الفرع للأصل، وهذا المفهوم للوحدة وواقع النهب والظلم والإلحاق لم يتغير منذُ عام 1990م، وحتى جاءت اللحظة التي انتصر فيها الجنوب على الشمال في حرب مارس / اذار 2015م، عندما لقنت قوات المقاومة الجنوبية الحوثيين وأتباع صالح درسًا قاسيًا في فن الحروب، ليطرد الجنوبيين الغزاة المعتدين على أراضيهم في فترةً وجيزة، ما جعل العالم أجمع ينذهل من هذه العزيمة العجيبة، والتضحية الرهيبة التي قدمها الجنوبيين في سبيل تطهير أراضيهم.
وبحسب بعض الوثائق فإن السلطة الخفية، ممثلة بـ"الائتلاف القبلي والعسكري وعلماء السلطة" في الجمهورية اليمنية العربية عملت، منذُ اليوم الاول لإعلان الوحدة، على قتل حلم الوحدة اليمنية الذي تغنى به الجنوب منذ الاستقلال، ليكتشف بعد عام 1990م، وتحديدًا بعد 1994م، أن مفهوم الوحدة كان مختلفًا تمامًا، حيث كانت الوحدة تعني للجنوبيين الشراكة والقوة ومستوى أفضل لمواطنيه والخطوة الأولى لتحقيق حلم الوحدة العربية، بينما لم تكن الوحدة في ذهنية نظام صنعاء تتجاوز الاطماع في مزيد من الأراضي والثروة والسلطة، خصوصًا وأن الجنوب قدم للوحدة طواعية كل ما يملك (دولة، أرض، ثروات، بنية أساسية، قاعدة مادية ضخمة)، أضافة إلى تنازلات عدة أهمها (العاصمة، والعملة، ورئاسة الدولة، والأرض الواسعة، وشواطئ بحرية، وجُزر، وثروات طبيعية متعددة) وغيرها، فيما لم يقدم الشمال شيئًا يذكر.
ورغم كل ما قدمه الجنوب إلا انهُ لم ينل إلا المهانة والذل والظلم طيلة الـ29 عامًا، ما جعله يرفض مشروع الوحدة الذي كان حلمًا يراود كل الجنوبيين، مدركين حجم الوهم والخداع الذي عاشوا فيه، الأمر الذي تمخض عنه اندلاع ثورة الحراك السلمي في عام 2007، الذي بدأ بكيان جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرحين من عملهم في ثورة جديدة لاستعادة هويتهم ودولتهم المنهوبة، مطالبين النظام الحاكم، آنذاك، بالمساواة وإعادة المسرحين العسكريين والمدنيين، واستعادة دولتهم الجنوبية، وبدلًا من معالجتها بحلول صادقة جرت مجابهتها بالقمع والعنف من خلال الاعتقالات الواسعة والقتل المفرط في ظل صمت مخجل من قبل المجتمع المدني والمثقفين في شمال اليمن، وحتى المجتمع الدولي والعربي، ورغم ذلك حافظ الجنوبيين على سلمية ثورتهم، ولم ينجروا الى دائرة العنف حتى قدوم الحوثيين وانصار صالح منتصف مارس / اذار 2015م الى الجنوب، الأمر الذي أجبر الجنوبيين على الدفاع عن عرضهم وشرفهم، ليُطرد الحوثيين وانصار صالح في يوليو / تموز من ذات العام.
ووصلت معاناة شعب الجنوب اليومية طيلة السنوات الماضية، ذلك الشعب الذي سادت فيه قيم سامية (سياسيًا وقانونيًا وثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا)، الى درجة لا تحتمل، ليدرك بوضوح طبيعة السلطة الحقيقية الحاكمة في صنعاء، التي تكونت من تحالف مصالح قبلية وعسكرية وعلماء سلطة على مر عقود من الزمن.
وكانت سلطة صنعاء ظلت جاثمة على أنفاس أبناء الجمهورية العربية اليمنية الشقيق منذ ما قبل اندلاع ثورة 1962م، والانقلاب على الرؤساء واغتيالهم وسيطرت هذه القوى على مفاصل الدولة، لتحرف مسارها، ولتبسط نفوذها على مقدرات وقرارات الشعب اليمني الشمالي آنذاك.
اليوم تحل الذكرى التاسعة والعشرون للوحدة اليمنية المشؤمة، وذكرى اعلان فك ارتباط الجنوب عن الشمال، تلك الوحدة التي دمرت الأخضر واليابس، وقتلت كل روح الأخوية بين الشعبين الشقيقين الجنوبي والشمالي، لكن الذكرى تأتي اليوم وقد تغيرت أمور عديدة اهمها تمكن الجنوبيين من السيطرة على أراضيهم وبناء جيش جنوبي موحد، وتأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي كحامل للقضية الجنوبية، ووصلها الى محافل اقليمية ودولية.
فمنذ إعلان عدن التاريخي في 4 مايو / ايار 2017م والذي تمخض عنه تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي في الحادي عشر من ذات الشهر والعام، بقيادة اللواء عيدروس قاسم الزُبيدي، والانتقالي يخطو خطوات جادة ومتسارعة نحو تحقيق هدف شعب الجنوبي الأسمى المُتمثل في استعادة الدولة المسلوبة منذُ عام 1990م، وبات الجنوبيين اليوم أقرب – أكثر من أي وقت مضى - إلى استعادة دولتهم الجنوبية.