الإثنين - 22 فبراير 2021 - الساعة 10:41 م
تابعت مثل غيري من المعنيين بالأزمة اليمنية وما صنعته من تداعيات مؤلمة وكارثية، تابعت ما كتبه السيد جمال بن عمر المبعوث الأممي السابق إلى اليمن في مجلة "نيوز ويك" ألأمريكية تحت عنوان "ماذا بعد عودة الدبلوماسية في اليمن؟" والذي تعرض فيه للعديد من التفاصيل المتعلقة بالأزمة السياسية والحرب الدائرة في اليمن منذ آخر الأيام لتواجده في اليمن.
والحقيقة أن الكثير من القضايا التي تناولها السيد بن عمر في مقالته تستحق التوقف والمناقشة، بدءً بحديثه عن تقاسم السلطة، وتناوله لما أسماه بــ"التدمير الوحشي لإحدى أقدم المدن في العالم"، مرورا بحديثه عن "عملية تفاوضية تضمن مقعدًا لكل طرف في الصراع"، وانتهاء بمقاربته عن الحلول والمنهاجيات المقترحة التي يجب أن تأخذ بالاعتبار جماعة الحوثيين الذين كما قال "مهما كان الدور الذي لعبوه قمعيًا ومثيرًا للشجب، إلا إنهم ما زالوا أقوياء"
كل هذه القضايا وقضايا أخرى مما ورد في مقالة السيد بن عمر تستحق التوقف لكننا لن نتناولها هنا، حيث يستدعي مثل هذا التناول مساحة أوسع من الحيز والزمن، لكن أهم ما بدا في مقالة السيد بن عمر يمكن تلخيصه في إن المبعوثين الأممين لا يتعاملون مع القضايا التي يكلفون بمعالجتها من منطلق السياسة والحق والقانون والمشروعية، ولا من منطلق الخلفيات التاريخية وعلاقات السبب والنتيجة، بل من منطلق اللحظة الراهنة المقطوعة عن الماضي والمستقبل وعن بقية التفاعلات السابقة والمحتملة لاحقاً، ومن ثم فإن الأقوى (في لحظة التناول والمعالجة) هو من ينبغي أن تؤخذ مصالحة ومطالبه بالحسبان عند اتخاذ القرارات الدولية أو حتى عند صياغة التقارير أو تقديم الإفادات أمام المنظمة الدلية، حتى وإن كان الدور الذي يلعبه " قمعيًا ومثيرًا للشجب".
ليس هذا ما وددت مناقشته في هذا المقام، بل إن ما لفت نظري هو ما تضمنه حديث السيد بن عمر عن القضية الجنوبية والوضع في الجنوب وهو يستعرض التداعيات التي نجمت عن الحرب من خلال قوله "ولا يمكن تجاهل فئة جديدة من أمراء الحرب والجماعات المسلحة ، بما في ذلك الانفصاليون الذين تمولهم الإمارات في الجنوب ، والذين ظهروا خلال هذه الحرب" . . . إلى آخر النص.
وقبل مناقشة هذه الفقرة القليلة الكلمات والمملوءة بالأغلاط (وربما المغالطات) لا بد من القول، إن السيد بن عمر قد حظي بإعجاب وتقدير الكثير من اليمنيين في الشمال والجنوب، وهو يخوض معركته في سبيل التقريب بين "الإخوة الأعداء" لكن النتيجة التي وصل إليها بعد كل هذا الجهد الطويل والمضني والممل، كانت مخيبة للآمال، ربما ليس بسبب تقصيره أو عجزه، لكن بسبب إنه لم يستطع اكتشاف نوع الساسة الذين يتعامل معهم، والذين يمكن تلخيص ثقافتهم بأنها تنطلق من مبدأ التقية، وهو يعني إمكانية بل وأحقية قول شيء وفعل نقيضه، وعندما تكون المواثيق والتعاملات مع هذا النوع من الساسة قائمة على هذه القاعدة الخرقاء فإنها لن تنتج إلا الويلات والمآسي والخرائب والحرائق، وهذا بالضبط ما جرى لليمن بعيد المخرجات التي ملأ بها الساسة اليمنيون ضجيجا وتغزلاً، ولن نستغرق كثيرا في تبرير الحرب التي أعلنتها دول التحالف العربي ضد الجماعة الحوثية، فلهذا حديث يتشعب ويطول، لكن هذه الحرب لم تكن عدوانا ولم تستهدف " التدمير الوحشي لإحدى أقدم المدن في العالم".
وبالعودة إلى الفقرة المتعلقة بالجنوبيين الذين وصفهم السيد بن عمر بــ"الانفصاليون الذين تمولهم الإمارات في الجنوب" يمكن التعرض للنقاط التالية:
• أورد السيد بن عمر حديثه عن الجنوب في إطار الحديث عمن أسماهم بـ" أمراء الحرب" ولا أدري هل كان يعني ما كتب أم إنها غلطة غير مقصودة، لكن ما يجب إيضاحه هنا هو إن من أسماهم بالإنفصاليين الذين تمولهم الإمارات، ليسوا أمراء حرب أولا، لأنهم لم يلجأوا إلى المواجهة المسلحة إلا بعد أن اجتاحت محافظاتهم جحافل "التحالف الانقلابي" الذي تعرض له الرئيس الشرعي لليمن عبد ربه منصور هادي، حينما كان السيد بن عمر ما يزال في صنعاء، وإن الجنوبيين لم يحملوا السلاح رغبة في التسلية أو اللعب أو الاستثمار في الحرب، لكنهم كانوا مضظرين للدفاع عن أهلهم ومدنهم ومنشآتهم وتاريخهم، إن السيد بن عمر وكما قلت ياخذ ظاهرة وجود مسلحين بمعزل عن خلفياتها التاريخية والسياسية، ووصف القوات المسلحة التي نشأت في الجنوب بـ"أمراء الحرب" فيه أخطاء قانونية واعتبارية ومعرفية، خصوصا إذا ما علمنا أن كل الوحدات العسكرية في الجنوب، تم تأسيسها بقرارات رئاسية من قبل الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي وتعتبر جزءً من البنية العسكرية في اليمن.
• إن من أسمياهم السيد بن عمر بـ"الانفصاليين الذين تمولهم الإمارات"، هم ورثة تاريخ يمتد إلى ما قبل قرن من الزمان عندما دشن الآباء والأجداد مقاومتهم للاستعمار الأجنبي، ثم نالوا استقلالهم وبنوا دولتهم كاملة السيادة على أرض الجنوب، وهي الدولة دخلت في وحدة طوعية مع شقيقتها اليمنية (الشمالية) ولم تدم هذه الوحدة الطوعية أربع سنوات حتى ثبت فشلها واستعيض عن الطوعية بالغزو المسلح للجنوب واحتلال أرضه وتدمير ما تبقى من معالم دولته، لكن بدا واضحا أن السيد بن عمر يستمد مفردات خطابه من قنوات ومصادر جماعة الاجتياح والاحتلال، الذين يصنفون الشعب الجنوبي على إنه "مجموعة من الانفصاليين" وإن هؤلاء "مدعومون من الإمارات" ويعزلون كل ذلك عن مسبباته ونتائجه، وخلفياته وتعقيداته التاريخية، وكأن "الانفصالية" إصابة عارضة، يمكن تناميها بالعدوى أو علاجها بالمسكنات، وليست قضية وطن ودولة وأرض وشعب وهوية وتاريخ، ولولا ضيق الحيز لكنا أوضحنا للسيد بن عمر مسيرة المقاومة السلمية الجنوبية لاحتلال الأشقاء للجنوب منذ 1994م لكن من الواضح أن السيد بن عمر، لا يستمع إلا إلى وسائل إعلام غزاة 1994م ولا يتلقف إلا مفرداتهم، بل إنه قد نسي حتى ما شهدته قاعات مؤتمر حوار صنعاء، من محاججات ومناقشات، وكواليس واختلافات أدت إلى انسحاب ممثلي "مؤتمر شعب الجنوب" وهو المكون الجنوبي الوحيد الذي شارك في المؤتمر باسم الجنوب، من بين عدد من المكونات ينظوي تحت لوائها ملايين الجنوبيين، بل لقد نسي النقاط العشرين المتعلقة بالقضية الجنوبية التي دارت حولها نقاشات حامة الوطيس وصدرت ببعضها قرارات جمهورية لم ينفذ منها حرفاً واحداً.
• ولعلم السيد بن عمر، فإن قضية الجنوب التي يدافع عنها من أسماهم بـ"الانفصاليين المدعومين من الإمارات" لم تنشأ مع الحرب ولم تكن من تداعياتها، بل إن عمرها كان ربع قرن عند إعلان عاصفة الحزم، وقد قدم الجنوبيون في الاحتجاجات السلمية أكثر من عشرة آلاف شهيد سقطوا برصاص قوات أمن النظام الذي اجتاح الجنوب في 1994م، كل هذا جرى على مدى ربع قرن حينما كانت كل الدول العربية حريصة على دعم نظام علي عبد الله صالح وحلفائه، ولإن كانت دولة الإمارات العربية المتحدة ومعها المملكة العربية السعودية الشقيقتين قد قدمتا الدعم اللوجستي للمقاومة الجنوبية الوطنية في مواجهة الغزو الغاشم في 2015م، وهو أمر يستحق الثناء والتقدير والعرفان، فإن الدولتين الشقيقتين لم تصنعاء ثورةً رافضةً للاحتلال والاستباحة، وبطبيعة الحال لم تحرضا الشعب الجنوبي للمطالبة باستعادة دولته، لإن ذكرى هذه الدولة مغروسة عميقا في الذاكرة التاريخية للجنوبيين، ولا يمكن أن يقتلعها أو يعيد زراعتها أحد، ومن هنا فإن قضية الجنوب والقوى المعبرة عنها ممن سماهم السيد بن عمر بـ"الجماعات المسلحة" و"الانفصاليين" لم "تظهر خلال الحرب" بل هي امتداد لصراع طويل من أجل الحق والحرية والانعتاق من تبعات الاحتلال الممتد إلى ما قبل ما يقارب ثلاثة عقود، ولو أخذ السيد بن عمر هذه الحقيقة بعين الاعتبار أثناء وجوده في اليمن لكان سجل موقفاً مختلفاً عما نسمعه منه اليوم.
وأخيراً إننا لا ننتظر من السيد بن عمر إحداث تغيير جدي في صيرورة العملية السياسية في اليمن، ولا أن يسهم في تغيير موقف القوى الفاعلة في إعادة مسار السلام وإحقاق الحق لأصحابه وردع المعتدي عن عدوانه،من خلال تقديم حلول منصفة للقضايا المعقدة ومنها القضية الجنوبية، فهو لم يفعل هذا حينما كان منغمسا في الشأن اليمني، لكننا كنا نتوقع منه وقد تحرر من القيود البروتوكولية والالتزامات الوظيفية، أن يقدمَ رؤية أكثر تعمقا وأكثر دقة وأكثر إنصافا للجنوبيين الذين لم يطلبوا المعجزات، ولم ينشدوا سوى استعادة دولتهم، في إطار عملية سياسية تفضي إلى العودة إلى نظام الدولتين في الشمال والجنوب، تماماً كما كانتا قبل "الوحدة الفاشلة" في العام 1990م، والانتقال من علاقة المحتل وصاحب الأرض الواقعة تحت الاحتلال، إلى علاقة الجوار الندِّي والشراكة والتعاون والسلام والتنمية والتطلع إلى مستقبل مشترك يرعى كرامة وآدمية الإنسان في الشمال والجنوب وعلى السواء.
مع صادق التحيات المقرونة بالود والاحترام.