الأحد - 08 يناير 2023 - الساعة 11:50 م
رغم أنني لم أعد أرغب في الكتابة عن أمور كثيرة في حياتنا نظرا لأن الكثير مماحولنا أصبح مزيفاً ، وخاضعاً للأمزجة الشخصية والمزايدات الانتهازية ، التي خدمت الأعداء كثيرا أكثر مما تخدم أحلام ومصالح وطموحات الناس ، فتحولت الكثير من الفرص الى عثرات ، وتعمقت الفجوة بين الممكن والمستحيل ، وحوصرت العقول والكفاءات والخبرات لصالح عقليات اكثر فقرا واكثر ضيقا .. ولكن قرية (قرنة ) في مديرية جحاف بمحافظة الضالع ، فرصت علي اليوم ان اكتب عن لحظة جميلة وصورة مشرقة التقطتها العدسات صباح اليوم ، تستحق ان توثق وتسجل بحروف من ذهب .
قرنة .. اسم يعكس معاني جميلة .. ففي قاموس المعاني والأسماء وقاموس العربية تعني زاوية الارتكاز ، وهي ايضا بمعنى المكان البارز من كل شيءٍ وهي حدُّ السيف، وحدُّ الرمح .
كما انها تعني قَرَنَ الشيء بالشيء بمعنى جمعه به، مثل قرن الحج بالعمرة اي وصلها .. وبالتالي ليس غريبا ان تجمع قرية( قرنة) أبناء جحاف وتوصلهم ببعضهم .
ومن دلالات هذه المعاني ليس غريبا على أهلنا وأحبابنا وإخواننا الاعزاء في قرية قرنة ، ان يترجموا عمليا تلك المعاني والدلالات على ارض الواقع ، وأن يبادروا بكل حب وصدق الى التخلي عن بعض اسوار منازلهم وومتلكاتهم الخاصة من أجل مصلحة أجمل وأشمل وأكبر تجمعهم بكل إخوانهم في هضبة جحاف الجميلة الشامخة الصامدة في وجه كل التحديات والأعباء والظروف وضد كل قساوة الطبيعة وتعرجاتها الحادة .
وأنا اشاهد اليوم مبادرة اهلنا في قرنة الى ازالة بعض اسوارهم او اجزاء من ارضهم من اجل مصلحة كل جحاف ، شعرت بفخر وكبرياء بهؤلاء الرجال ، لأنهم استطاعوا إثبات اجمل صورة ستظل راسخة في الاذهان .. صورة مغايرة لكل من كان يعتقد ان قرنة ستكون ضد المصلحة العامة ..
بل ان كل ابناء جحاف قد أثبتوا خلال السنوات الثلاث الماضية مدى حرصهم على التكاتف والوفاء والاخلاص حينما يتعلق الامر بالمصلحة العامة وليس ادل على ذلك تلك التبرعات التي جمعوها من اجل نفس الحلم - حلم الطريق - سواء في المرحلة الاولى او الثانية ، وذلك بعد يأسوا من امكانية استكمال الطريق ، وكأن الله تعالى قد استجاب لدعائهم وتضرعاتهم بتحقيق هذا الحلم بعد ان مروا بمرحلة إختبار للمسارعة في العطاء والسعي نحو الخير والمحبة ، بتقديم التبرعات للطريق او لأصحاب الحالات الحرجة ، فبعث الله وكيل من اقصى اصقاع الدنيا ، بعد ان ضاق الناس ذرعا من واقعهم المؤلم وحياتهم البائسة وهمومهم الجمة ، في ظل إطالة أمد الصراع والحرب وانهيار الاقتصاد والعملة وتحول الدولة الى مجرد شبح يتقاسمه تجار الحروب لنهب وافزاع الناس هنا او هناك ، وتخلي شركاء دولة معاشيق عن ابسط واجباتهم تجاه الناس بحجة الصراع والحرب بينما لايتورعون عن نهب وتقاسم الدعم والهبات والمساعدات والنفط والموارد والوظائف والمناصب والمنح ، دون اي إكتراث للتضحيات الجسام التي يقدمها ابناء مناطقنا كل يوم في الضالع وغيرها من مناطق الجنوب الباسلة ، ويكفي ان نقول انه يكاد لايمضي شهرا دون ان يمر على هذه الطريق موكب شهيد الى مثواه المشرف في تربة هذا الجبل الشامخ .
احيي كل ابناء قرنة بشيوخهم ورجالهم ونسائهم وشبابهم واطفالهم فردا فردا .. لانهم يمثلون اليوم قدوة لكل ابناء جحاف ، بل ان هناك من قد سبق وتخلى عن بعض ارضه في قرى اخرى من اجل الطريق والمصلحة العامة ، وسيأتي اليوم ان شاء الله الذي يتم فيه تقدير وتكريم كل أؤلئك الأحبة في لوحات الشرف والإيثار والتضحية .
تحية تقدير خاصة للأخوة علي حرمل وعبده عبادي وخالد محمد عبادي وعصام أحمد علي وصلاح قائد صالح ، الذين بادروا حتى الان بتقديم ذلك الأنموذج المشرف ، الذي أثمر إعجاب وتقدير كل الناس .
التحية ايضا تزجى من القلب لإخواننا اعضاء اللجنة المجتمعية جميعا واتذكر منهم الاخ المدير العام صالح عبدالله الحاج و والأخوة الأكارم عسكر ناجي محمد والنقيب عبدالله محسن جرجور وقايد حميد محسن وعلي ناشر حسن ومحمد علي زيد وصالح علي محسن ومسعد ناصر صالح ووليد عبدالله محمد وفضل علي محمد الشلن واحمد حسن هريش ومحمد حمود محسن المولعي ومحمد حمود محسن القرضي ..
وبالطبع الشكر موصول للاخ العزيز المهندس/ عبدالرحمن علي حمود (فريد) مدير مكتب الاشغال بالمحافظة وللأخوة المهندسين والمشرفين وللأخ المقاول الذي لا اعرف إسمه .. وفوق كل ذلك شكرنا العميق للأخ العزيز الوزير الشيخ غالب مطلق صاحب الايادي البيضاء والجهود الخيرية والانسانية الملموسة ، والمعذرة ان كنت نسيت كل من يستحق ان نوجه له شكرنا وتقديرنا ممن يعملون بصدق واخلاص من اجل الصالح العام .
استطيع الجزم ان القادم أجمل لأبناء جحاف جميعا ، لأن حلم عشرات السنين الذي ظل يراود ثلاثة أجيال يوشك أن يتحقق خلال الأشهر القادمة ، والذي بتحقيقه سيفتح جحاف ذراعيه للضالع وعدن وكل مناطق الجنوب المجاورة كرئة ومصحة طبيعية تزهو بنسائم هواءها الذي يجدد ويبهج النفوس وبصيفه الماطر وإخضرار مدراجاته التي تقدم أجمل فرصة لكل من يبحث عن السياحة الريفية الممتعة وبمايسهم في توفير المزيد من فرص العمل وتحسين مستويات دخل الكثير من العائلات ، وتحسين الخدمات وتقريب المسافات والتواصل بين الناس ، وتوفير المزيد من النفقات في عمليات النقل والتنقل حيث ان اغلى تعرفة نقل في اليمن شمالا وجنوبا هي تعرفة النقل من الضالع ااى جحاف التي تبلغ ثلاثة آلاف ريال للراكب لمسافة لاتزيد عن ١١ كيلومتر تقريبا بينما المسافة من الضالع الى قعطبة تصل الى اكثر من ٢٠ كيلومتر والاجرة لاتزيد عن ٣٠٠ ريال تقريبا ، وهذا مجرد مثال لفهم حجم معاناة الناس هناك .
في الاخير اجد نفسي اتذكر قصة تعود الى ١٢٠ عاماً ، وقعت أثناء مفاوضات الحدود بين الانجليز والاتراك ، وتحديداً في ١٩٠٥م حينها وقف المؤرخ والقائد الانجليزي (هارولد جاكوب ) واتجه بناظريه نحو هضبة جحاف وعبر عن ندمه وهو يغادر الضالع الى عدن ، وكتب الكثير عن انطباعاته في كتابه الشهير (تاريخ ملوك وأمراء شبه الجزيرة العربية ) الذي قال فيه انه فقط نادم على مفارقة هضبة جبل جحاف ووصفها بأنها ( أعظم مصحة طبيعية في الشرق الاوسط ) .
كان ذلك الكلام الجميل في زمن الاجداد ولم تكن هناك اي طرقات الى جبل جحاف ، وبعد ان قرأ الانجليز الكتاب سارعو الى شق او طريق ترابية وعرة الى جحاف في خمسينيات القرن الماضي للإستفادة من من الهضبة عسكريا وكمصحة طبيعية سياحية من خلال اجازات تمنح للجنود والضباط المبرزين والملتزمين الذين يحلمون بزيارة المنطقة هروباً من جو ورطوبة عدن الحارقة .. وكانت السلطات الانجليزية تخطط لإنشاء احدث المنشئات في جحاف وتحويلها الى مصحة طبيعية وسياحية بإمتياز ولكن لم يسعفها الوقت نظرا لقيام حركة الكفاح المسلح التي توجت بطرد الانجليز وتحرير ارض الجنوب .
اليوم نستطيع القول لأحفاد(ياكوب) ان أحفاد اجدادنا باتوا على مسافة من تحقيق ذلك الحلم ، الذي سيجعل هذه المصحة أقرب وفي إمكان كل من يرنو ببصره قادما اليها من بعيد ، دون ان يفكر بأي ندم مثلما فعل صديقنا القائد والمؤرخ البريطاني ياكوب ، والذي أحب جحاف بكل شغف .